بقلم الدكتور احمد عبد العزيز الحداد
كان لحادثة الطفل المغربي الذي سقط في بئر سحيق أثرٌ بالغ في نفوس المطّلعين والمتابعين، وكان الكل يدعو الله جلّ وعلا أن يخرجه سليماً معافى، إلا أن المقادير الإلهية قضت أن ينال مع براءة الطفولة شرفَ الشهادة، فيكون فرَطاً لأبويه، وشفيعاً لهما، ولا رادّ لقضاء الله سبحانه وتعالى، وكما قال العلامة الفقيه ابن رسلان في زُبده:
كذا له أن يؤلِم الأطفالا ووصفُه بالظالم استحالا
لأنه يتصرف بمُلكه كما يشاء، كما يتصرف المالك منا في مِلكه، فلا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
وبقدر ما كان لهذه الحادثة من محنة؛ كانت منحتها كذلك كبيرة، حيث أظهرت معادن الإنسانية المتعاطفة في العالم كله؛ أظهرت أن الإنسانية قاسم مشترك بين الجميع، فالكل يشعر بالمشاعر نفسها تجاه الحوادث والآلام، وأنها وإن غابت أحياناً لظروف استثنائية، فذلك لا يعني فقدَها، بل إنها تتحرك في أدنى تذكر.
أمَا وقد تحركت مشاعر الإنسانية التي أيقظها (ريان)، رحمه الله وجعله ذخراً وفرطاً لأبويه، يتعين أن تتحرك لنظرائه الأطفال المشردين في البراري والقفار وبين أمواج البحار، الذين عظَّهم الدهرُ بِنابه، وطحنهم البؤس بكَلْكَلِه، وامتص الشتاء لحمهم وشحمهم، فكان أقصى أُمنية أحدهم أن ينال خيمة تكِنُّه من تساقط الثلوج، أو بطانية تدفئه من ألم البرد، فضلاً عن مأكل مناسب، أو تعليم نافع، أو دواء ناجع.
نظراء (ريان) الذين يعيشون هذه المآسي كثيرون كعدد رمل عالج، في البلدان المضطربة سياسياً، أو الفقيرة معيشياً، أو الغارقة فساداً، فلا يعطف عليهم قريب أو بعيد، ولا يتحسس مآسيهم غني أو فقير، وإن كانت مأساتهم أقل من مأساة (ريان) في الظاهر، حيث يعيشون بنفَس حي، إلا أن الواقع أنهم أسوأ حالاً منه، حيث يموتون موتاً بطيئاً، فلا هم أحياء يعيشون بكرامة الإنسانية، ولو بسداد من عيش، ولا هم أموات قد استراحوا من ألم مزمِن، وفقر مُضن.
والفارق الوحيد بين (ريان) ونظرائه أن العالم كله لم يستيقظ لألمهم وبؤسهم وشقائهم، كما استيقظ في لحظة من نهار لمحنة (ريان)، ولعل السبب في ذلك أن العالم قد سئم من تكرار رؤية وسماع مظاهر الأسى لنظراء (ريان) في الملاجئ والشتات، فتبلدت أحاسيسه ومشاعره، على حد قول المتنبي:
وكنتُ إذا أصابتني سهامٌ تكسّرت النصال على النصال
وها هو يستيقظ بهذه الحادثة المؤلمة؛ فعليه أن يعلم أن أطفال الملاجئ والمخيمات والبلدان الفقيرة والغارقة في الفساد، هم مثل (ريان) أو أشد حاجة للتعاطف حتى لا يهلكوا كما هلك (ريان)، ولكن بعد مزيد عناء وبؤس، والله تعالى سائلُ كل غني ومستطيع عن هؤلاء المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة، فقد أسمعوا كل حي، وانتشرت صورهم لكل مبصر، فلا هم أعانوهم لتجاوز بؤسهم وشقائهم بإعادتهم إلى ديارهم، ولا هم أغاثوهم في مقارهم الشاتية..، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضتُ فلم تعدني! قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمتَ أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمتَ أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استطعمتُك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمتَ أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه، أما علمتَ أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتُك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك؟! وأنت رب العالمين، قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدتَ ذلك عندي».
هكذا يعاتب المولى سبحانه عباده الذين بلَغهم حال عباده الضعفاء، وقد تعرضوا لهؤلاء بالسؤال، استطعموهم، واستكسوهم، وأشعروهم المسكنة فلم يحرك لهم ساكناً، فسيكونون في طائلة العتاب الذي قد يعقبه حساب؛ لأن معاتبة مالك الملك سبحانه لعباده لا يعني بقاء الود لهم كما هو حالنا معاشر البشر، بل هو مقدمة لمناقشة الحساب، وفي الحديث الصحيح «من نوقش الحساب عُذب»، ذلك لأن المال مال الله وقد استخلفه الله تعالى عباده، على أن يؤدوا حقه لعباده، فإن لم يفعلوا كانوا عنه مسؤولين، وبه مؤاخذين.